Pages

مقالة جديدة



                              فضيلة الشيخ الأستاذ الشرشيري رحمه الله
 واحة العلم المفقودة








 
 
هو أحد العلماء الكبار، ناصر الدين، عالم العصر، فقيه الأمة، تقي سخي، قدوة العارفين، عمدة المحققين، سراج الفقهاء، حجة الأنام، بهجة العلماء ..... اسمه زين الدين، ولقبه زين العلماء، هو زين الدين بن محمد بن زين الدين الشرشيري.
كان الشيخ وافيا للعلوم الشرعية كلها مثل الفقه والحديث والتفسير وغيرها حتى أصبح يرجع أهل كيرالا إليه في جميع مسائلهم، وتضلع من الفقه الإسلامي حتى حلّ ربقة المسائل التي لا حصر لها وشك اللمح بالبصر، وقد أثنى معاصروه على تعمقه في علم الفرائض، ولا أغالي إذا قلت لا تعرف كيرالا عالما بارعا في علم الفرائض إلا إياه بعدما انتقل فضيلة الشيخ شمس العلماء إلى جوار الله،
 تقاطر عليه الظماء من كل حدب وصوب فاغترفوا من ذاك الخضم الزاخر ما يرويهم واقتطفوا من تلك الدوحة الناتئة ما يشبعهم، وبيّن الشيخ المسائل الحديثة صريحا من إجارة الرحم وغيرها على ضوء العبارات الفقهية التي نقلها عن تحفة المحتاج بشرح المنهاج ردا على دعاوي المبتدعين الذين قالوا إن تحفة المحتاج كتاب قديم فلا بد من تركه والرجوع إلى القرآن والسنة ، وقد أفتى الشيخ في عدة مسائل فتاوى مقنعة لا يشك فيها أحد، وكان مع جلالته في العلم مناظرا حسن المناظرة وأمينا لها طالبا للحق لا يبتغي صيتا ولا شهرة. 
اتفق العلماء على علمه وورعه، ويدل عليه ما حدث في المسجد بكالكوت .... ‘يوما من الأيام .... بعدما انصرف مجلس العلماء بكالكوت اجتمع جميعهم بالمسجد، وآن أوان صلاة الظهر فأقام المقيم، فقال الشيخ كَنِيَت : الأحق بالإمامة هو الفقيه، أنا أفقه هنا، ولكنني تعب جدا، فليؤم زين الدين’
وكان الشيخ خطيبا غمر البديهة متصرما في فنون الكلام، إذا وقف عند منصة الخطباء ارتفعت إليه الآذان والأعين وهدأ كل شيئ حتى أمواج البحر فيستفيد المستمعون من خطبته دررا فريدة لا تمتد إليها الأعناق، وكانت خطبته لحمتها المادة وسداها اللباب، نفذت كلماته المليئة بالجد والهزل إلى قلوب الناس بغير إذن، أدرك الحاضرون جميعهم بسهولة ما نثر الشيخ من بذور لا عدد لها، ومرجع ذلك أن خطبته امتازت برقة التعبير وقوة التأثير وسهولة العبارات وفخارة العلوم، ومما لا مجال للشك أن أهل البدع قد مارسوا صمتا لا نهاية له نُصب كلامه الحاد الذي أطبق أفواههم أشد الإطباق.
كان الأستاذ متحليا بالأخلاق الفاضلة، فإنه مشى على وجه الأرض  متواضعا، ولم يرد علوا في الأرض ولا فسادا، وكفى دليلا على تواضعه أنه وصل إلى رحاب  جامعة دار الهدى راكبا على الحافلة أعواما ... ما شاء الله ... وتملك الناظرين عجب حينما مشى الشيخ إلى بيته قابضا على كيس السمك رغم أنه الذي انتهت إليه آراء المسلمين في ولاية كيرالا، وزار الابتسام ثغره كلما نظر إلى الناس أغنياء كانوا أو فقراء، ولم ينظر إلى أحد من الأنام بوجه عبوس ... على النقيض ... كان خده الملموس كل وقت بشوشا وضيئا، جعل الشيخ السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة مقوله، والصدق طبيعته، والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه.  
كان زين العلماء تقيا زاهدا عاملا، ويدل على علو تقواه قصة يرويها خطيب المسجد بكندوتي شاه جهان الرحماني، قال : جئت يوما إلى الأستاذ الشرشيري، فرأيته ساجدا، فانتظرت نهوضه من السجود، ولكنه ظل يسجد ثلاثين دقيقة، وبالجملة وصل الشيخ إلى أقصى ما يصل إليه عالم في هذا العصر من المجد والسمو، وأقبل إليه الطلبة من الآفاق، وخضع له العلماء والأمراء والوزراء، وسطع الشيخ في الغيهب الذي احلولك في سماء كيرالا فبدده، فكأنه شجرة طيبة تضرب جذورها في أعماق بعيدة من تربة، فيفئ إليها الناس، يستظلون بها من وهج الحياة.  
نشأته  ودراسته
يتحدر الشيخ زين الدين مسليار من أسرة جليلة مشهورة بالتقوى والعلم واسمها الشرشيري، وينتهي نسبه إلى بيت كريم من بيوت الأشراف وكثير المآثر والمفاخر ومعروف بالعلم والأدب والفضل والإحسان، تولت هذه الأسرة منصب القضاء والحكم بولاية كيرالا بعد عهد الأسرة المخدومية المشهورة، وكان عم زين العلماء أحمد مسليار عالما حاذقا طار صيته في أنحاء كيرالا.
فضيلة الأستاذ الشرشيري من مواليد مدينة مريور عام 1937م الموافق 1356هـ  وكان أبوه محمد مسليار عالما، ثقة، نبيلا، عابدا، زاهدا، جليلا، وهو - رحمه الله – وإن كان عالما كبيرا حرص على أن يكون متواضعا عابدا عاملا، وأمه فاطمة كانت عاقلة باسلة، فنشأ الشيخ منعما في حجر أمه وكنف أبيه، ونهل منهما  آداب أهل العلم وفضلهم حتى ذاع صيته، وظهرت أخلاقه الحميدة بين أهله وأصدقائه. إلى جانب العلوم الدينية تعلم زين العلماء العلوم المادية ، التحق الشيخ بمدرسة الشيخ ملة بفلفرنب، وقضى عنده شهورا وحصل على العلوم المادية، ثم التحق بالمدرسة الحكومية  بكندوتي فأنفق فيها ثمانية أعوام، وحصل الشيخ على شهادة ‘أفضل العلماء’ مع إذن والده...
 تلقى زين العلماء مبادئ الدين وأهم الكتب الإسلامية على يدي والده محمد مسليار ضمن سبعة أعوام بكندوتي، وكان والده حريصا على متابعة ولده في كل خطوة من خطواته، ثم رحل إلى الشيخ عبد الرحمن مسليار بمنجيري، ولما رأى الأستاذ في الطالب علامات النجابة والذكاء عكف على تدريسه حتى تعمق في التفسير والفقه والحديث، استغرقت الدراسة عنده سنتين، ثم شد الرحال إلى  الشيخ زين الدين الأودكلي بتشاليام، درس عنده سنة ريثما تربع الشيخ على أوج المعارف الإسلامية، كان الشيخ أحب طالب إلى الأستاذ، قال الشيخ عنه مرة : " كنت أقرأ عبارات الكتاب على الأستاذ أو كي ، لكن بعض الطلبة لم يحب ذلك، فقد أظهروا علي البغضاء، فذكرت ذلك الأستاذ، فقال الأستاذ غدا لا يقرأ علي إلا زين الدين، فإن قرائته قد أبرزت  لي ما لم أفهم .
تدريسه وتنظيمه
بعدما أتم الشيخ دراسته استأذن والده على الانتقال إلى الجامعة العربية بولور، فقال له والده مبتسما واضعا يديه على كتفيه ‘‘لا داعي لك إلى ذلك فإن المتخرجين من تلك الجامعة سيتوافدون عليك إن شاء الله’’، منذئذ ذاع صيته في أرجاء كيرالا حتى انتصب مدرسا وقاضيا على منطقة كودجاد، قضى فيها عشرين عاما، فغادره إلى المسجد الجامع الكبير بتشماد، فاتسعت فيه حلقته اتساعا كبيرا، وتقاطر عليه الطلاب من كل فج راغبين في حلقته العلمية، بعد ثمانية عشر عاما انتقل زين العلماء إلى جامعة دار الهدى بتشماد استجابة لدعوة بافوتي الحاج عام 1994م، ثم  عمل الشيخ فيها مدرسا حتى وافاه اليقين.
وقد أخذ عنه كثير من الطلبة علوم الشريعة وأصولها ومبادئها، ومن أبرز تلاميذه جعفر الهدوي وبهاء الدين الهدوي وسمسار الهدوي ....هلم جرا، وتلامذه يبذلون جهودهم اليوم لإشاعة مبادئ الإسلام في أرجاء العالم، وامتاز أسلوب تعليمه بالجد والهزل والسهولة والأمثال المناسبة.     
 ومما لا مجال للشك أن جمعية العلماء يعتمد عليها أكثر الناس  بولاية كيرالا فيما يواجههم من المسائل الفقهية والقضايا الدينية، تم انتساب الشيخ إلى تلك الجمعية عضوا من أعضاء المشاورة لها عام 1980 م ، كان ذلك خطوة جديدة في حياته العلمية، ثم انتخب عضوا من أعضاء لجنة الفتوى لها عام 1981م، ثم اختاره العلماء رئيسا للجنة الامتحان عام 1994م ، لما توفي سماحة الشيخ شمس العلماء رجا العلماء أن يتولى زين العلماء منصب الأمين العام ، وكان الشيخ لا يتشوف لتلك المناصب ولكن العلماء أجمعوا على تعيينه أمينا عاما عام 1996م ، قضاء الله لا يرد...!! سد الله فراغ عالم بعالم آخر...!! ثم قبض زين العلماء على صولجان السلطة لجمعية العلماء عشرين عاما، إن من حظ المسلمين في ديار كيرالا أن يتربوا على يد عالم فذ عشرين عاما، إنه ليس عالما في الشريعة الإسلامية فحسب بل كان عالما في مجالات العلوم واللغات وعبقريا ومجاهدا بنفسه ليل نهار، وكان الشيخ قاضيا على مئات من المناطق بولاية كيرالا، فأصبح الشيخ ملجأ يأوي إليه الناس من تلك المناطق في جميع مشكلاتهم. 
 مؤلفاته البارزة
إلى جانب المقالات والبحوث، له مؤلفات وأهمها على ما يلى                                                                                                        
·       الحج والعمرة
·       علم الحديث
·       ألف الأستاذ كتابا عن التربية (education)

وفاته
قضى الشيخ أوقاته كلها مغوارا باسلا في ميدان أهل السنة والجماعة ضد أعداءها الألداء، وما زال الشيخ يقيم في رحاب جامعة دار الهدى حتى أضعفه مرضه، ظل الشيخ يدرس والمرض يحاصره، منذ سنتين أخذ يتبين منه عدة علامات تدل على موته ، ارتحل الشيخ إلىى الحرم الشريف وبيت المقدس لأداء الحج وزيارة الأنبياء الكرام طبقا لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، وطلب من لجنة جامعة دار الهدى تعيينه مدرسا يعلم الكتاب صحيح مسلم تبعا لدعدن العلماء الصالحين الذين قاموا بتدريسه في آخر أيامهم ....! كان آخر كتاب درسه زين العلماء تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيتمي، يا للعجب ... شرفه الله بما أحبه طول حياته، وبعد ذلك .. ما تريث الشيخ غير قليل حتى أدخل في المستشفى المسمى ببيبي بكالكوت، ثم لم يلفظ زين العلماء إلا أذكارا وآيات القرآن.
          صباح اليوم الثامن عشر من أكتوبر عام 2016 م شرب زين العلماء قليلا من ماء زمزم ثم أغمضت عينيه قائلا : " لا إله إلا الله " نعم لبى نداء ربه مغرقا من حوله في خضم الدموع، ولكن لا يقال عنه مات، بل حي عند ربه بإذنه، فبكى من بكى ... صاح من صاح ... فرّ من فرّ ... سقط من سقط ... إنا لله وإنا إليه راجعون ...  نعم ...  بكت السماء والأرض ... تجمدت كيرالا لا حراك لها ...كأنها فقدت قائدها .... فتدفق الناس من جميع نواحي كيرالا للنظرة الأخيرة إلى ذلك الوجه المبتسم، أولا تم نقل جثمان فقيد الأمة إلى بلده كندوتي، ثم نقل جسده الشريف إلى رحب جامعة دار الهدى حيث دفن وفقا لوصيته.....  إنه زين قد فاق بزينته العلماء .... إنه شمس ساطعة لزمانه .... غفر الله لنا وله ... وأسكنه الله في دار القرار .... وأسكب عليه شآبيب رحمته.